أمير المؤمنين (عليه السلام )… مشروع الإسلام الحي

 


أمير المؤمنين (عليه السلام )… مشروع الإسلام الحي

دراسة توثيقية تحليلية.. ✍️ زاهر حسين العبدالله

ماذا قدّم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام للإسلام والمسلمين؟
دراسة توثيقية تحليلية في الأبعاد القرآنية والرسالية لشخصيته عليه السلام

مقدّمة

لم يكن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام شخصيةً تاريخيةً عادية نشأت في سياقٍ سياسي أو اجتماعي أو عقدي أو فكري، بل كان مشروعًا إلهيًا متكامل الأركان، تربّى في حضن النبوة ورضع من ثدي الإيمان، وتجلّى في ميادين العقيدة، والجهاد، والعلم، والعدالة، والتربية. ومن هنا، فإن دراسة ما قدّمه للإسلام والمسلمين ليست استعراضًا لسيرته فحسب، بل قراءة في عمق الرسالة المحمدية وكيف تجسّدت عمليًا في شخصه. فكان بحق مظهرًا لتجلّي الله سبحانه وجماله ومحطّ أمره ونهيه، فهو كما قال النبي الأعظم محمد صلى الله عليه وآله في الرواية عن ثابت مولى أبي ذر قال: دخلت على أم سلمة فرأيتها تبكي وقالت: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: «عليٌّ مع الحق، والحق مع علي، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض يوم القيامة» .
الأصبغ سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: «ويل لمن جهل معرفتي ولم يعرف حقي، ألا إن حقي هو حق الله، ألا إن حق الله هو حقي».(١)

أولًا: الولادة في أطهر بقعة على وجه الأرض وقبلة المسلمين

افتتح الله تعالى حياة أمير المؤمنين عليه السلام بولادةٍ فريدةٍ في جوف الكعبة المشرفة، وهي خصوصية لم يُشاركْه فيها أحدٌ قبله ولا بعده. وقد حمَل هذا الحدث دلالةً رمزيةً وعقدية، تُشير إلى الارتباط الجوهري بين عليٍّ والتوحيد الخالص، وبين شخصه وبيت الله الحرام الذي جعله الله مثابةً للناس وأمنًا. قال تعالى:﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ﴾ (الحج: 26)(٢)

وقد روت العترة الطاهرة عليهم السلام هذه الحادثة بوصفها آيةً إلهية، قال الإمام الصادق عليه السلام:
«روي عن عتاب بن أسيد أنه قال: وُلد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام بمكة في بيت الله الحرام يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من رجب، وللنبي صلى الله عليه وآله ثمانٍ وعشرون سنة، قبل النبوة باثنتي عشرة سنة».(٣) وهذه الولادة لم تكن تكريمًا شخصيًا فحسب، بل إعلانًا مبكرًا عن دورٍ استثنائي سيؤديه هذا المولود في حماية التوحيد وبناء الإسلام.
ولذا وردت رواية على لسان أمه فاطمة بنت أسد الهاشمية بعد أن ذكرت آسية ومريم وكيف أن الله سبحانه فضّلها عليهما بقولها:
«اختارني وفضّلني عليهما، وعلى كل من مضى قبلي من نساء العالمين، لأني ولدت في بيته العتيق، وبقيت فيه ثلاثة أيام آكل من ثمار الجنة وأوراقها، فلما أردت أن أخرج وولدي على يدي هتف بي هاتف وقال: يا فاطمة، سميه عليًّا، فأنا العلي الأعلى، وإني خلقته من قدرتي، وعزّ جلالي، وقسط عدلي، واشتققت اسمه من اسمي، وأدبته بأدبي، وفوضت إليه أمري، ووقفته على غامض علمي، وولد في بيتي، وهو أول من يؤذن فوق بيتي، ويكسر الأصنام ويرميها على وجوهها، ويعظمني ويمجدني ويهللني، وهو الإمام بعد حبيبي ونبيي وخيرتي من خلقي محمد رسولي، ووصيّه».(٤)


ثانيًا: خصوصية تربية النبيّ الأعظم محمد (ص) له وأول من آمن برسالته

نشأ أمير المؤمنين عليه السلام في كنف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكان تلميذه الأول، وربيب وحيه، وشاهد بدايات الدعوة قبل أن يعرفها غيره. ولم يُعرف عن مولانا أمير المؤمنين عليٍّ عليه السلام أنه تلوّث بشيء من مظاهر الجاهلية، بل كان موحِّدًا بالفطرة، واعيًا للحق منذ نعومة أظفاره، فكان مصداقًا لقوله تعالى:
﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ۝ أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾ (الواقعة: 10–11)

وقد عبّر أمير المؤمنين عن تلك التربية من النبي الأعظم محمد (ص) بقوله:
«ولقد كنتُ أتبعه اتّباع الفصيل أثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علمًا، ويأمرني بالاقتداء به».(٥) وأجمعت روايات العترة على أنه أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو إيمانٌ مؤسَّس على وعيٍ وبصيرة، لا على تقليدٍ أو انفعالٍ عاطفي.


ثالثًا: خصوصية زواجه من فاطمة الزهراء عليها السلام وبناء الأسرة الرسالية

كان زواج أمير المؤمنين من السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام حدثًا مفصليًا في التاريخ الإسلامي، إذ شكّل النواة الأولى للأسرة الرسالية التي أرادها الله سبحانه امتدادًا للطهارة والنبوة والإمامة. وقد جاء هذا الزواج بأمرٍ إلهي، لا باعتباراتٍ اجتماعية أو مادية، بل بأمر رباني سماوي ليكون مصداقًا لقوله تعالى:
﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ (الأحزاب: 33).

وقد بيّن ذلك النبي الأعظم محمد صلى الله عليه وآله في روايةٍ عجيبة حينما اعترضوا عليه في عدم تزويجهم سيدة نساء العالمين، لاختصاصها بأمير المؤمنين عليه السلام، فعن الحسين بن خالد، عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا، عن أبيه، عن آبائه، عن علي عليهم السلام قال: قال لي رسول الله (ص): «يا علي، لقد عاتبني رجال قريش في أمر فاطمة وقالوا: خطبناها إليك فمنعتنا وزوجت عليًّا، فقلت لهم: والله ما أنا منعتكم وزوجته، بل الله تعالى منعكم وزوجه، فهبط عليَّ جبرئيل عليه السلام فقال: يا محمد، إن الله جل جلاله يقول: لو لم أخلق عليًّا عليه السلام لما كان لفاطمة ابنتك كفوٌ على وجه الأرض آدم فمن دونه».(٦)

ومن هذا البيت المبارك خرج نور الإمامة، وتكوّن النموذج الأعلى للأسرة المؤمنة المسلمة التي تتكامل فيها الرسالة مع الحياة.

 

رابعًا: حلمه وشجاعته وصبره وحكمته في مواجهة الظلم

تميّز أمير المؤمنين عليه السلام بشخصيةٍ جامعة بين الشجاعة الميدانية، والفصاحة، والحكمة السياسية، والحلم الأخلاقي. فقد صبر على الإقصاء والظلم بعد رحيل النبي، مقدّمًا مصلحة الإسلام العليا على حقّه الشخصي، لا ضعفًا، بل وعيًا بمآلات الفتنة، وحفاظًا على بيضة الإسلام.
فكان يؤثر مصلحة الإسلام على حقه الشخصي فعمل بقوله تعالى:﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (فصلت: 34) وعبّر في خطبته الشقشقية عن ذلك بقوله عليه السلام:
«فصبرتُ وفي العين قذى، وفي الحلق شجًا، أرى تراثي نهبًا».(٧)

لقد مثّل هذا الصبر مدرسةً في فقه الأولويات، حيث تُقدَّم وحدة الدين على نزاعات السلطة.


خامسًا: الدفاع عن الدين وردّ الشبهات والهداية بالحجّة

لم يكن دور أمير المؤمنين دفاعيًا بالسيف فحسب، بل كان دفاعًا فكريًا وعقديًا عميقًا. فقد واجه الشبهات، وحاجج أصحاب الملل والنحل، وربط بين النص والعقل، فكان لعلمه أثرٌ كبير في هداية الكثيرين إلى الإسلام بل وإلى الإيمان، فصار مصداقًا لقوله تعالى: ﴿وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾ (الفرقان: 52)

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله في حقه عليه السلام:» عليٌّ مع القرآن، والقرآن مع عليّ، لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض« . ولهذا قال بعضهم ممن استلم موضع الخلافة:
»عجزت النساء أن يلدن مثل علي بن أبي طالب (ع)، لولا علي لهلك عمر».(٨)


سادسًا: تربيته لأبنائه وأصحابه وبناء النخبة الواعية

أسّس أمير المؤمنين مدرسةً تربوية خرّجت رجالًا شكّلوا ضمير الأمة، فربّى أبناءه الإمامين الحسن والحسين وزينب عليهم السلام، وربّى أصحابًا صاروا رموزًا للثبات والوعي والبصيرة، كسلمان وأبي ذر وعمّار والمقداد ومالك الأشتر، فصاروا بحق شيعة أمير المؤمنين عليه السلام. فصار مصداقًا لقوله تعالى:
﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا﴾ (السجدة: 24)

فعن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام:
»خُلقت الأرض لسبعة، بهم تُرزقون، وبهم تُنصرون، وبهم تُمطرون، منهم: سلمان الفارسي، والمقداد، وأبو ذر، وعمّار، وحذيفة»، وكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام يقول: «وأنا إمامهم، وهم الذين صلّوا على فاطمة صلوات الله عليها».(٩).

 

 

خاتمة: أمير المؤمنين ميزان الإسلام الحي

إن ما قدّمه أمير المؤمنين عليه السلام للإسلام لا يُختصر في بطولاتٍ في ساحات الوغى أو مواقف جسّدت الإيثار والتقوى والتضحية والقيم الإسلامية، بل يتمثّل في تجسيدٍ عمليٍّ لروح الإسلام: عقيدةً واعية، وعدالةً شاملة، وأخلاقًا سامية، وعلمًا منفتحًا، وتربيةً تصنع الإنسان الرسالي.
ولهذا قال الإمام الرضا عليه السلام في تفسير سورة الرحمن، ينقلها علي بن إبراهيم القمي، وقال:
«وعلامات وبالنجم هم يهتدون» فالعلامات الأوصياء، والنجم رسول الله صلى الله عليه وآله. قلت: «يسجدان» قال: يعبدان. قوله تعالى: «والسماء رفعها ووضع الميزان» قال: السماء رسول الله صلى الله عليه وآله رفعه الله إليه، والميزان أمير المؤمنين عليه السلام نصبه لخلقه، قلت: «ألا تطغوا في الميزان».(١٠)

✍️ زاهر حسين العبدالله

 

المصادر والمراجع

  1. بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج 38 – ص 29.
  2. القرآن الكريم.
  3. بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج 35 – ص 7.
  4. الأمالي – الشيخ الطوسي – ص 707.
  5. نهج البلاغة – خطب الإمام علي (ع) – ج 2 – ص 157.
  6. عيون أخبار الرضا (ع) – الشيخ الصدوق – ج 2 – ص 203.
  7. نهج البلاغة – خطب الإمام علي (ع) – ج 1 – ص 31.
  8. بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج 30 – ص 679.
  9. الاختصاص – الشيخ المفيد – ص 5.
  10. بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج 36 – ص 172.

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

🔲الشيخ جواد الدندن( شمعة العلم والتقى)

أبرز دلالات تنصيب أمير المؤمنين عليه السلام يوم غدير خم

حوارية ( ١٣٧ ) كيف يحصل الشاب والفتاة المؤمنة فضل الساعات في شهر رمضان