حوار (١٥٨) يقظة الفطرة: السحر بين الحقيقة والوهم… والشيطان بين الوسوسة والضعف
حوار (١٥٨) يقظة الفطرة: السحر بين الحقيقة والوهم… والشيطان بين الوسوسة والضعف
السائل:
ما رأيك في عمل السحر والطبوب لتفريق بين المرء وزوجه، والضرر بالآخرين، والشواهد الحقيقية التي نراها من الصعب إنكارها؟
الجواب بسمه تعالى :
يا عزيزي… قبل أن نُسَلِّم بأنّ السحر قادر على قلب حياة إنسانٍ مستقر، وتخريب بيته، وجعل قلبه ينقلب على زوجته وأهله… دعنا نعود إلى قول الله وقول أهل البيت (ع)، فهم الفصل بين الحقيقة والوهم.
هل تقبل أن نسمع كلام الله سبحانه وأقوال النبي الأعظم وعترة صلوات الله عليهم والسلام قبل أن نسمع كلام الناس وما شاهدوه وسمعوه؟
السائل:
أكيد… تفضل وهذا ما أريده فياريت ترفع عني هذه الحيرة.
الجواب :
تعال نسمع كلام الله عز وجل ونتأمل في آياته بعين القلب والعقل والفطرة قبل كل شيء، بعد علمنا اليقيني بأن الضار والنافع والمعطي والمانع هو سبحانه، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فلا أحد من خلقه قادر أن يضر أحدًا إلا بإذنه وبأمره. وهو سبحانه قال في آياته كلمة قاطعة مانعة غير قابلة للتأويل والتفسير، مخاطباً جميع خلقه ومن أشرهم إبليس وأعوانه، دون استثناء.
﴿إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢)﴾ الحجر.
فاعترف إبليس ذليلاً أنه ليس له سلطان على خلق الله سبحانه وتعالى سوى أنني دعوت عبادك ضعاف الإيمان بك وبقوتك وسلطانك فاستجبوا لي، وإني واقعاً ليس لي سلطان عليكم بأي حال، وإذا كان هناك لوم فهو عليكم أن استجبتم لوسوستي في آذانكم. ثم يتبرأ إبليس من ضعف إيمانكم بظلمكم لأنفسكم كما جاء في
قوله تعالى: ﴿وَقالَ الشَّيْطانُ لَمّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّٰهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٢)﴾ (إبراهيم )
ويكررها الحق سبحانه في التحذير من وسواس الشيطان، وأنه ليس له سلطان على الذين آمنوا به، كما جاء في قوله تعالى:
﴿فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّٰهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩)﴾ النحل.
فسؤالي لك أخي العزيز:
كيف يكون للشيطان أو الجن سلطانٌ على إنسانٍ مطيعٍ لله أو حتى إنسانٍ مستقيم في حياته؟
والله سبحانه وتعالى نفسه نفى بشكل قطعي السلطان والقوة لإبليس على عباده، وعلّمهم كيف يمنعون وسواسه في آذان الذين آمنوا به. فهل نصدق الخالق أم نصدق الشيطان؟!
السائل :
بل نصدق الخالق سبحانه ولكن القرآن الكريم يثبت أن الشيطان له قدرة في التفريق بين الزوج وزوجته حيث قال تعالى أيضًا:
﴿وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلىٰ مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلٰكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتّىٰ يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ..﴾ البقرة
الجواب :
أحسنت. نعم القرآن الكريم ذكر السحر. لكن هل قرأت تكملة الآية؟ لماذا بترتها ؟ وفيها جواب على سؤلك حيث قول :
﴿وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلّا بِإِذْنِ اللّٰهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢)﴾ البقرة!
أي: السحر لا يعمل من تلقاء نفسه، ولا يخلق عداوة من فراغ، ولا يهدم بيتًا متماسكًا. إنما يؤثر عندما تكون هناك قابليّة داخلية في الإنسان نفسه مستعدة والشيطان مشعلها ومثبتها، ولها صور منها: غضب – سوء ظن – خوف – توتر – ضعف روحي… فالسحر يثير الموجود في ذات النفس، ولا يخلق غير الموجود.
السائل:
لكن بعض الناس تتغير حالتهم فعلًا، ورأينا ذلك بأمّ العين فلم نستطع نكرانه… فكيف نفسّر هذه الظاهرة؟
الجواب:
الآن ننتقل لكلام أهل البيت عليهم السلام في بيان هذه الظاهرة. ورد عن النبي الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم
قال: مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلّا وَلِقَلْبِهِ فِي صَدْرِهِ أُذُنَانِ، أُذُنٌ يَنْفُثُ فِيهَا الْمَلَكُ، وَأُذُنٌ يَنْفُثُ فِيهَا الْوَسْوَاسُ الْخَنَّاسُ، فَيُؤَيِّدُ اللّٰهُ الْمُؤْمِنَ بِالْمَلَكِ، وَهُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ).
بحار الأنوار، ج٦٠، ص١٩٤.
وقال الإمام الصادق (ع) – موضحًا هذه الحقيقة –:
(مَا مِنْ قَلْبٍ إِلّا وَلَهُ أُذُنَانِ، عَلَىٰ أَحَدِهِمَا مَلَكٌ مُرْشِدٌ، وَعَلَىٰ الْآخَرِ شَيْطَانٌ مُفْتَرٍ، هٰذَا يَأْمُرُهُ وَهٰذَا يَزْجُرُهُ…) بحار الأنوار، ج٦٠، ص٢٤٥.
لاحظ عبارتين:
1. "… فَيُؤَيِّدُ اللّٰهُ الْمُؤْمِنَ بِالْمَلَكِ"
أي: لا يستطيعون قلب شخصيتك أو محو حبّك لزوجتك إذا سمعت صوت الهداية.
2. "… وَعَلَىٰ الْآخَرِ شَيْطَانٌ"
أي: المشكلة داخلية—قابلية، انفعال، توتر، ضعف ثقة بقوة الله وسلطانه…
هذا قول النبي الأعظم محمد (ص) وقول الإمام الصادق (ع) المبيّن للقرآن، وليس رأيًا شخصيًا.
السائل :
وماذا عن تأثير السحر؟ هل هو قوي أم ضعيف؟
الجواب :
الإمام الصادق (ع) وضع قاعدة ذهبية تحفظ اليقين وتكشف التضخيم الذي يعيشه الناس. قال (ع): سُئل عن أصل السحر وكيف يقدر الساحر على ما يُوصَف… فقال: إن السحر وجوه… منه كمنزلة الطب… ومنه خفة ومخاريق… ومنه ما يأخذه أولياء الشياطين…
ثم قال عن قدرته على تغيير الخلق:
"هُوَ أَعْجَزُ مِنْ ذَلِكَ وَأَضْعَفُ مِنْ أَنْ يُغَيِّرَ خَلْقَ اللّٰهِ… لَوْ قَدَرَ لَدَفَعَ عَنْ نَفْسِهِ الْهُمُومَ وَالْآفَاتِ…"بحار الأنوار، ج١٠، ص١٦٨.
التعليق على الرواية
أي أن السحر موجود، لكن تضخيم الناس له أكبر من حقيقة تأثيره.الكثير من الحالات التي نراها ليست سحرًا، بل: توتر نفسي، اكتئاب، قلق، تراكم مشاكل زوجية، صدمات، ضغط اجتماعي… ثم تُعلّق على السحر لأنه أسهل تفسير.
السائل:
ولكن لماذا إذًا يتغيّر الإنسان فجأة وكأنه شخص آخر؟
الجواب:
حذّر أمير المؤمنين (عليه السلام) من الشيطان لما له من قدرة على اقتحام قلوب المؤمنين:
[احذروا عدوًا نفذ في الصدور خفيًا، ونفث في الآذان نجيًّا]. ميزان الحكمة: ج5، ص1920.
لم يقل: على قلبٍ مسحور. ولم يقل: على إنسان ضحيّة الجن. بل يقول: نفذ في الصدور… ونفث في الآذان. أي أن الاضطراب يبدأ من الداخل:
من ضعف روحي، وتوتر نفسي، وقابلية للوسوسة، وتضخيم المشاعر، وقرارات غير متزنة.
هذا ما يسميه الله:
﴿يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ (آل عمران: 175) تخويف… لا تسلط. الشيطان يهمس، ولا يصنع قرارًا.
السائل:
يعني أنت ترى أن السحر لا يمكنه تخريب بيت؟
الجواب:
أبدًا… لا يستطيع أن يخرب بيتًا أساسه قوي في يقينه بالله سبحانه وثقته به.
لماذا؟ لأن الله يقول:
﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾ (الحجر: 42) لاحظ: لم يقل "السحرة ليس لهم سلطان"، ولا قال "الجن".بل قال الشيطان نفسه لا يملك سلطانًا! فكيف يمتلكه تابعه؟!
وإمامنا السجاد (ع) يحسمها:
ولشدة تأثير الشيطان على الإنسان يعلمنا الإمام السجاد (عليه السلام) في مناجاته كيف ندعو الله تعالى لينجينا منه كما في قوله (عليه السلام):
(إلهي أشكو إليك عدوًا يضلني، وشيطانًا يغويني، قد ملأ بالوسواس صدري، وأحاطت هواجسه بقلبي، يعاضد لي الهوى، ويزين لي حب الدنيا، ويحول بيني وبين الطاعة والزلفى).
بحار الأنوار: ج94، ص143.
أي أنّ الإنسان لا يفعل شيئًا إلا بإرادته، لا بإرادة جنّي أو ساحر أو كاهن أو مفتن دجال.فالطلاق، وقطع الرحم، وتخريب الأسرة… كلها قرارات مرتبطة بإرادة الإنسان، لا بإرادة ساحر أو جنّي أو غيرها من الأوهام.
السائل:
إذًا لماذا يشعر بعض الناس بضيق، كراهية، توتر، نفور مفاجئ؟
الجواب:
لأن الشيطان يؤثر بالمشاعر لا بالأفعال. وهذا ما يسميه القرآن:
﴿وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ﴾ (الإسراء: 64) "استفزز" = حرّك، أزعج، شوّش، أثِر الأعصاب.
لكن الآية نفسها تقول:﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾
فعدم الابتعاد عن الشيطان يوجب الوقوع في معصية الله تعالى، بل يوجب الوقوع في شرك الطاعة، وهذا الشرك هو أحد أنواع الشرك الذي قالت عنه الآية الكريمة:
﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللّٰهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ (سورة لقمان، الآية: 13).كما يحذرنا الحق سبحانه أن لا نتخذ الشياطين أولياء كي لا تنفى صفة الإيمان عنّا بسبب فتنهم وقوله تعالى:
﴿يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ… إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ (الأعراف: 27). أي إنّ تأثيره نفسي لا تشريحي، ولا جبري.
السائل :
فما تفسيرك لحالات الخراب السريع في البيوت إذًا؟
الجواب :
أقول لك ما يقوله القرآن وأهل البيت (ع):
الخراب يبدأ من الداخل… ثم يأتي الشيطان يستغل الشرخ الحادث نتيجة ضعف الإيمان فقط.
تمامًا كما قال تعالى:
﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ… وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ (النساء: 120) أي يعدهم أوهامًا، يضخّم مخاوفهم، ويوظّف ضعفهم… لا أكثر.فالطلاق والخصومة وقطع الرحم… هي نتائج قرارات بشرية، لكنها تتأثر بالضغط النفسي، لا بالسحر القهري. أرجوا أن تستوعب ذلك .
السائل :
يعني الحلّ ليس في مطاردة السحر؟
الجواب :
بالضبط. الحلّ في تقوية الداخل:
ذكر الله، قراءة القرآن، تهدئة النفس، تصفية القلب، إصلاح العلاقة الزوجية بالحوار، مراجعة الذات، ترك الغضب، طلب الهدى من الله… لأن المشكلة – كما بيّن أهل البيت (ع) – في القابلية لا في الفاعلية. ولا يمحو وسوسة الشيطان عن القلب إلا ذكرُ شيءٍ سوى ما يوسوس به، لأنه إذا حضر في القلب ذكرُ شيءٍ انعدم عنه ما كان فيه من قبل. ولكن كل شيء سوى ذكر الله، وسوى ما يتعلق به، يجوز أن يكون مجالاً للشيطان. فذكر الله سبحانه هو الذي يؤمَّن جانبه، ويُعلم أنه ليس للشيطان فيه مجال.ولا يعالج الشيطان إلا بضده، وضد جميع وساوس الشيطان هو ذكر الله تعالى والاستعاذة به، والتبري من الحول والقوة، وهو معنى قولك: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وذلك لا يقدر عليه إلا المتقون الذين الغالب عليهم ذكر الله.وإنما الشيطان يطوف بقلوبهم في أوقات الفلتات على سبيل الخلسة، قال الله تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١)﴾الأعراف.
بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج٦٧ - الصفحة ٤١.
انظر كيف وضع العلاج:
الذكر… العصمة من الوسوسة.
ولم يقل: "التبخير" – "العزيمة" – "الأحجبة" – "قطع العلاقات" – "اتهام الناس بالسحر".
🌟 الخلاصة التي تهزّ القلب وتفتح نور اليقين يا أخي…
الجن لا يملك قلبك. السحر لا يملك قرارك. الشيطان لا يملك حياتك.
بدليل قول الله سبحانه:
﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾ (النساء: 76). وأنت الذي تملك اختيارك، وتهدم أو تبني، وتصل أو تقطع.ولو كان السحر قادرًا على تدمير البيوت لما بقي بيت على الأرض. إنّ الضيق والاضطراب والكراهية المفاجئة… كلها سحبٌ عابرة، يزيدها الشيطان سوادًا،
لكنّ شمس اليقين تمزّقها حين يرجع القلب إلى الله،ويطفئ الوسوسة بالثقة والذكر، ويعالج الداخل بدل مطاردة الوهم.
والحمد لله رب العالمين.
✍️ زاهر حسين العبدالله
https://t.me/zaher000

تعليقات
إرسال تعليق